قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا قَاتَل أحَدكم أخَاه فَليَجتَنِبِ الوجهَ فإنّ الله خَلقَ آدمَ عَلىَ صورَتِه".
قال الشّيخ -وفّقه الله- هذا الحديث ثابت عِند أهل النقل. وقد رَوَاه بَعضهم: "أنّ الله خلق آدمَ على صورة الرَّحَمنِ" وَلاَ يثبت هذا عند أهل النقل. ولعله نَقْل من راويه بالمعنى الذي توهمه: وظنّ أنّ (الضمير عائد) على الله سبحانه فأظهره وقال على صورة الرحمن.
واعلم أن هذا الحديث غلِط فيه ابن قتيبة وأجراه على ظاهره (وقال: فإن الله سبحانه له صورة لا كالصور وأجرى الحديث على ظاهره) والذي قاله لا يخفى فساده لأن الصورة تفيد التركيب وكلّ مركبٍ محدث والباري سبحانه وتعالى ليس بمحدث فليس بمركب وما ليس بمركّب فليس بمصوّر. وهذا من جنس قول المبتدعة إن الباري عزّ وجلّ جسم لا كالأجسام لما رأوا أهل السنة يقولون: البارىء سبحانه شيء لا كالأشياء طردوا هذا فقالوا جسم لا كالأجسام وقال ابن قتيبة صورة لا كَالصّوَر.
والفَرق بَين مَا قلنَاه وَمَا قَالوه أن لفظة شيء لا تفيد الحدوث ولا تتضمن ما يقتضيه. وقولنا: جسم وصورَة يتضمَّنَان التأليف والتركيب وذلك دليل الحدوث. وعجبًا لابن قتيبة في قوله: صورة لا كالصّوَر، مع كون هذا الحديث يَقتضي ظاهره عنده خَلق آدم على صورته فقد صارت صورة الباري سبحانه على صورة آدم عليه السلام على ظاهر هذا على أصله فكيف يكون على صورة آدم ويقول: إنها لا كالصوّر. هذا تناقض. ويقال له أيضا: إن أردت بقولك صورة لا كالصور أنّه ليس بمؤلف ولا مركب فليس بصورة على الحقيقة وأنت مثبت تَسمِيَةً تفيد في اللّغة معنى مستحِيلاً عليه تعالى مع نفي ذلك المعنى فَلم تعط اللفظ حقّه وَلمَ تجرِه على ظاهره فإذا سلمت أنه ليس على ظاهره فقد وافقت على افتقاره إلى التَّأَويل. وهذا الذي نقول به فإذا ثَبَت افتقاره إلى التأويل قلنا اختلف الناس في تأويله فمنهم من أعاد الضمير إلى المَضروب وذكر أن في بعض طرق الحديت أنه سمعه - صلى الله عليه وسلم - يقول: قبح الله وجهك ووجه من أشبهك أو نحو هذا فقال - صلى الله عليه وسلم - ما قال إما عَلىَ هذه الرواية وهي شتم من أشبهه فبينَّ وجه هذا التعليل لأنه إذا شتم من أشبهه فكأنّه شتم آدم وغيره من الأنبياء عليهم السلام وإنما ذكر الأول تنبيها عليه وعلى بنيه وأما على هذا الذي وقع في كتاب مسلم فيحتمل أن يكون تعبد الله سبحانه بتخصيص الوجه بهذه الكرامة لشبهه باَدم إجلالا لآدم - صلى الله عليه وسلم - ولا يبقى على هذا إلاّ أن يقال فيجب أن يجتنب ما سواه من الَأعضاء المشبهة لآدم. وجواب هذا: أنّه لاَ يبعد أن يكون الله سبحانه يتعبد بما شاء ولم يجعل هذه العلة جارية مطردة، وقد اختصَّ الوجه بأمور جليلة ليست في غيره من الأعضاء لأن فيه السمعَ والبصر، وبالبصر يُدرك العالمَ وُيرَى ما فيه (من العجائبَ الدّالة على عظم الله سبحانه، وبالسمع تُدرَك الأقوال، وتسمع أوامِر الرسول عليه السلام ونواهيه ويتعلم بهم سائر العلوم) التي منها معرفة الله عزّ وجلّ ومعرفة رسله عليهم السلام وفيه النطق الذي يتميز به عن البهائم ويشرف به الإنسان على سائر الحيوان ومثل هذا التميز لا يبعد أن يجعل سببا في تمييزه بهذا الحكم.
وقال آخرون: إن الضمير عائد على آدم نَفسِه. وَعورِض هؤلاء بأن هذا يجعل الكَلاَمَ غثا لغوا لا فائدة تحته وأي فائدة في قولك: خلق زيد على صورة نفسه والشجرة على صورتها نَفسِها. وهذا معلوم بالعقول ولا يفتقر إلى خبر منقول. وأجاب أصحاب هذا التأويل عن هذا الاعتراض بِأن الفائدة فِيه التّنبيه على من خالف الحق من أصحاب المذاهب كالطبائعين القائلين بأن تصوير آدم كان عن بعض تأثيرات النجوم أو العناصر أو غير ذلك مما يهَذون به فأكذبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبر أنّ الله سبحانه خلق آدم على صورته أو أكذَب الدّهرية في قولهم: ليس ثم إنسان أول وإنما الإنسان من نطفةٍ ونطفة من إنسان هكذا أبدا إلى غير أول فأخبر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن الله سبحانه اخترع صورة آدم ولم يكن مصورا عن أب ولاكائنا عن تناسل، أو يكون أكذب القدرية في قولهم: إن كثيرا من أعراض آدم وصفته خلق لآدم فأخبر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه مخلوق بجملة صورته، وهذا التأويل الذي ذهب إليه هؤلاء من إعادة الضمير إلى آدم بِنَفسِه إنما يحسن إذا روي لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - مَجرَّدا من السبَبِ مقتصرا منه عَلىَ قَوله: "إنَّ الله خَلَقَ آدَمَ على صورته" وأما ذكر السبب أو ذكر جميعِ مَا حَكَاه مسلِم عنه - صلى الله عليه وسلم - "إذا قَاتَل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته" فإنه لا يحسن صرف الضمير لآدَمَ لأنه ينفي أن يكون بين السَّبَب أو صَدرِ الكلام وآخره ارتباط ويصيرَ الكلام وما وقع في كتاب مسلم من معنى المتنافر. وقد روي أنه روي مختصرا مقتصرا فيه على ما قلناه فقال فيه بعض ائمّتنا هو من اختصار بعض الرواة.
وقال اَخرون فإن الضمير يعود إلى الله سبحانه ويكون له وجهان: أحدهما أن يراد بالصورة الصفة كما يقال: صورة فلان عند السلطان كذا بمعنى صِفَته كذا. ولما كان آدم عليه السلام امتاز بصفات من الكمال بتميزٍ بالعقل والنّطق عن البهائم وبالنبّوة عن سائر بَنِيه سوى النّبيئين منهم (وله فضائل اختصّ بها فكأنّه شبّهه من هذه الجهة باختصاص الله سبحانه) بالرفعة والجلال لا سيما وقد أمر الملائكة بالسجود له والسجود لا يكون إلاَّ لله وإن كانت الملائكة إنما سجدت له طاعة لله عزّ وجلّ. هذا المعنى ذكره بعض أصحابنا وفي التشبيهِ بُعْدٌ.والوجه الثاني عند أصحاب هذا التّأويل أن تكون إضافة الصورة إضافةَ تشريفٍ واختصاصٍ كما قيل في الكعبةِ بيت الله وإن كانت البيوت كلّها لَه عزّ وجهه وكما قال تعالى {نَاقَةَ اللَّهِ} إلى غير ذلك مما وقع في الشريعة من أمثال هذا وقد تميَّز آدَم - صلى الله عليه وسلم - بِأن خلقه الله جلّت قدرته بيده ولم يقَلّبه في الأصلاب ولا درَّجه من حالٍ إلى حال فتكون الإضافة إضافة اختصاصٍ لهذا المعنى ولغيره.
وأما مَن صرّح بهذا الضمير وأخرجه الرحمن فإنه يردُّ من جهة النقل وأنه ضعيف عند المحدثين. واختلف أصحابنا في رده من جهة اللّسان فقال بعضهم: ما يحسن مثل هذا في الكلام لأنّ اللفظ الظاهر إذا افتتح به وأعيد ذكره فإنه إنما يعاد بالضمير ولهذا يقال: ضربَ زَيد عَبدَه، ولا يقال: ضَرَب زيد عَبدَ زيد ومرادهم بزيد الثاني زيدًا الأول قالوا فلو كان ما قالوه صحيحا لكانت العبارة عنه "خلق آدم على صورته" كما وقع في الطّرق الثابتة. وقال بعض أصحابنا: لا يستبعد هذا في اللِّسان وقد قال سبحانه وتعالى {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} ولم يقل يوم نحشر المتّقين إلينا، وقال بعض النحاة أيضا: من هذا أيضا قوله تعالى {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا} وأنشد في ذلك قول عدي بن زيد: [الخفيف]
لا أرَى الموت يسبق الموت شيء ... نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا
وفي هذا كفاية.
0 التعليقات :
إرسال تعليق